
لا يصعب على أحد تقريبا، الحديث عن المأساة العراقية، أو بعبارة أدق “الكارثة العراقية” التي بدأت فصولها بالتسلسل منذ عام 1991 وفرض الحصار على البلاد وليس انتهاء بالاحتلال الأمريكي وما تلاه من سيطرة حلفاء إيران على بلاد الرافدين. ولكن ما يعتبر صعبا بدقة هو تشخيص الواقع العراقي الحالي بعيدا عن نظريات المؤامرة والتحليل الرغبوي الناقم على أحد الأطراف.
بحكم الموقع الجغرافي والمكانة التاريخية والبعد الجيوسياسي، تتجه الأنظار للعراق كلما دار الحديث عن دول غرب آسيا العربية، خصوصا أنه يمثل نقطة التقاء القادمين من أواسط آسيا ومن الجزيرة العربية صعودا إلى هضبة الأناضول.
المشهد المعقد في العراق لا يبدو تفكيكه أمر سهل، خصوصا أن الكعكعة العراقية ذهب جلها في فم المرشد الإيراني الذي يتمتع أتباعه بمناصب سيادية في الحكومة وسيطرة شبه مطلقة على مؤسسات الدولة فضلا عن وجود الحشد الشعبي النسخة العراقية من الحرس الثوري الإيراني.
يتمتع اليمين الشيعي الحاكم ببراغماتية سياسية ومبدئية عالية لذا يعد من أكثر المبدلين للأقنعة في البلاد، بدءا من تحالفه مع الأمريكان عقب 2003 وصولا إلى التقاطع مع سياسة واشنطن في المنطقة ورفع شعار المقاومة التي لم تلبث أن يظهر زيفها خصوصا مع عملية طوفان الأقصى.
سمحت هذه البراغماتية للفاعل السياسي الشيعي في العراق بتجنب العديد من العواصف التي هبت على حكومة بغداد وكادت أن تسقطها، لكن مع كسر ضلع المحور الشيعي في سوريا، وإسقاط نظام الأسد اتجهت الأنظار مجددا نحو بغداد وخرج السؤال الكبيرة، هل نحن أمام سيناريو مستمر لإحراق حديقة طهران الخلفية “العراق”.
بيد أن الواقع في العراق مختلف تماما، ومن عدة جوانب:
- داخليا – إرادة التغيير من الداخل تكاد تكون غائبة بعد تحييد المكون السني خصوصا في السنوات الماضية، وتمتع المكون الكردي بشيء من الاستقلالية يجعل تأثيره على المشهد العام ضئيلا، أما المكون الشيعي فقد أخذ فرصته خلال أحداث تشرين التي انتهت تحت رصاص السلطة وفتاوى المرجعية، والمال السياسي.
- خارجيا – حكومة بغداد بعد 2003 كانت تقف بين لاعبين رئيسيين (واشنطن وطهران) تميل للثانية عادة لكنها في الملمات تهرع للبيت الأبيض الذي يحاول الحفاظ على صورة الحكم في العراق، بدلا من فوضى قد تهدد العالم مجددا.
وبالنظر إلى هذه العلاقة يبدو التغيير من الخارج مستحيلا، ليس على العراق فحسب، بل عالميا حتى، فمفهوم التدخل الخارجي لإسقاط حكم ومجيء آخر لم تعد فكرة مقبولة في أوساط الساسة. لذلك هناك عدة سيناريوهات لتقليم أظافر المحور الإيراني تتمحور حول التالي:
- تحرك حكومي تحت الضغط بدعم غربي لهيكلة الحشد الشعبي ودمجه بمؤسسات الدولة وإخفاء بعض الوجوه التابعة علنا للمحور.
- ثورة داخلية قد تكون مستبعدة في الوقت الراهن تطيح بالطبقة الحاكمة وربما يستلم الجيش زمام الحكم، بدعم عربي غربي.
قد تبدو هذه الخيارات للكثيرين وجهة أفضل من المجهول في حال سقوط النظام العراقي الحالي، أو خير من البقاء تحت سطوة صقور الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، إلا أن التجارب في العراق مختلفة تماما فكل محاولات الإصلاح من الداخل أو التهذيب والتشذيب تأتي بنتائج معاكسة فالخلل بهذا النظام بنيوي يقتضي حلا جذريا وعملية جراحية فوق الكبرى يقوم بها العراقيون أنفسهم. النظام الشيعي الحاكم في العراق شبيه إلى حد كبير بنظام بشار الأسد، فالطائفة الشيعية كما العلوية هي المسيطرة على مقاليد الحكم وإن ظهرت أسماء سنية في الواجهة، كما أن النهج الطائفي منتشر بشكل واسع في جميع مؤسسات الدولة وأهمها القضاء والعسكر والأمن وصولا إلى الأندية الرياضية والشرائح الفنية، فعمليات تبديل رأس النظام أو تقليم مخالبه لن تأت بنتائج مرضية إطلاقا، على العكس فبراغماتية الأحزاب الشيعية تسمح لها بالتلون حسب الظرف لكن دون التخلي عن الهدف الأساس بل تأجيله، والذي يتمثل باستئصال أو تحجيم شبه صفري للوجود السني في العراق، وربما قد تكون الخطى لهذا الهدف أسعر من أي وقت مضى مع انهيار أضلع المحور في سوريا ولبنان.