
منذ أن اغتصبت عائلة الأسد الحكم في سوريا في العام 1970 على يد حافظ الأسد، وهي تتبع نهجا سلطويا ديكتاتوريا دمويا قائما على قمع الشعب السوري وممارسة أعنف صور القمع والقتل والتهجير، ليصبح عهد الأسدين من أسوأ فترات التاريخ السوري. ففي عهد الأسد الأول وتحديدا في العام 1982، قام رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، بارتكاب مجزرة حماة المروعة التي استمرت لمدة 27 يوماً، وأسفرت عن مقتل عشرات الآلاف من المواطنين المدنيين وتدمير كامل لمدينة حماة. كانت مجزرة ممنهجة استهدفت محو كل صور المعارضة وترك الشعب في رعب ومعاناة تستمر لسنوات.
وفي عهد الأسد الثاني استمر النهج القمعي في عهد بشار الأسد الذي شهدنا معه معاناة أكبر منذ اندلاع الثورة في سبتمبر 2011، حيث تسبب نظام بشار في مقتل ملايين السوريين وتهجير ملايين آخرين. ولكن، وعلى الرغم من مقدرة عائلة الأسد على مواصلة إرهابها، فإنّ رغبة الشعب السوري في الخلاص من هذا النظام الطاغية لم تنكسر، ولا زالت قوة دافعة للمقاومة والنضال في سبيل الحرية والكرامة.
ففي أواخر نوفمبر 2024، بدأت قوات الثورة السورية هجومًا واسعًا في شمال سوريا، وتمكنت من تحرير مدينة حلب في 29 نوفمبر 2024، وهو تحول مفصلي في مسار الثورة. ومع تزايد الضغط العسكري، تراجع النظام بشكل ملحوظ. في 7 ديسمبر 2024، بدأت قوات الثورة بتطويق العاصمة دمشق بعد تحرير القرى القريبة منها. وفي 8 ديسمبر 2024، أعلنت قوات الثورة السورية وعلى رأسها هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع السيطرة على دمشق وهروب بشار الأسد من العاصمة.
هذه التطورات السريعة أظهرت أن الاستعداد الدقيق واختيار التوقيت المناسب، مع التوفيق من الله، هي مفاتيح النجاح، مما يجعل انهيار نظام بشار الأسد درسًا مهمًا للمناضلين والمقاومين في كل مكان. فسقوط نظام قمعي دموي متجذر تطلب استعداد قوى الثورة مع ضعف الداعمين وانهيار حاضنته الطائفية، ويمكن تصور ذلك من خلال:
أولاً، منذ اتفاق الأستانة في 23-24 يناير 2017، الذي أسس لمناطق خفض التصعيد، بدأت فصائل الثورة في الشمال السوري بتوحيد صفوفها والحد من التدخلات الخارجية في قراراتها. هذا التحضير المستمر أسهم في تحقيق الانتصارات الأخيرة.
ثانيًا، تطورت تجربة مدنية ناجحة في الشمال السوري، حيث تمكنت المجالس المحلية من إدارة الحياة اليومية وتقديم الخدمات الأساسية، مما عزز ثقة الشعب بالثوار ومنحهم فهمًا أعمق لمسؤوليات الحكم.
ثالثًا، شهد النظام تراجعًا في دعم حاضنته الشعبية، خاصة بعد الخلافات مع شخصيات بارزة من الطائفة العلوية، مثل رامي مخلوف، الذي برزت خلافاته مع الأسد إلى العلن في مايو 2020، مما أدى إلى زعزعة الثقة داخل الدائرة المقربة من النظام.
رابعًا، إنهاك القوى الداعمة للنظام كان له دور محوري؛ حيث انشغلت روسيا بحربها في أوكرانيا منذ فبراير 2022، وتعرض حزب الله لضغوط متزايدة في مواجهاته مع إسرائيل، بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، مما قلل من قدرتهم على دعم النظام السوري. هذه العوامل مجتمعة تشير إلى أن النجاح لا يتحقق بالمعجزات، بل من خلال التخطيط الدقيق والعمل الجاد وانتظار الفرصة المناسبة.
في التاريخ الإسلامي، نجد أن صلاح الدين الأيوبي انتظر اللحظة المناسبة، بعد إعداد منظم ومنطوي على خطط استراتيجية لمدة تقارب 20 عامًا، حيث سعى صلاح الدين في بداية أمره إلى توحيد المسلمين وقيادة الوضع العربي المنقسم، فواجه معارضة شديدة من القادة المحليين، لكن من خلال القوة والتفاوض والمصالحات السياسية، قام بتوحيد مصر والشام والعراق تحت راية واحدة، مما وفر قوة عسكرية وبشرية ضخمة لمواجهة الصليبيين. كذلك، اهتم ببناء جيش منظم ومتكامل من خلال تطوير التكتيكات العسكرية وتعزيز مهارات المقاتلين. من الجانب الآخر، كان الصليبيون في حالة ضعف وتفكك. ففي منتصف القرن الثاني عشر، كانت الدولة الصليبية في الشام وفلسطين تعاني من خلافات داخلية بين قادتها، وتنافس السلطات والأمراء على النفوذ والمصالح الشخصية. كما أن الهزات الاقتصادية وتقلص الموارد أضعفت قدرتهم على تمويل الجيوش وتنظيمها. فوق هذا كله، موت الملك الصليبي أمنوري الفرنسي في معركة حطين قوض المعنويات وعزز التراجع. هكذا توافق الاستعداد والتصدي مع فرصة ضعف العدو ليتمكن صلاح الدين من تحقيق نصره الكبير في معركة حطين واستعادة القدس في 1187م.
بالنظر إلى القضية الفلسطينية، يمكن استلهام الدروس من التجربة السورية. فالمجتمع الإسرائيلي يشهد بوادر انقسام داخلي وتصاعدًا ملحوظًا في التطرف الديني، مما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الدولة من الداخل وتفجير التوترات بين مكوناتها المتعددة من يهود الشرق والغرب، والمتطرفين والعلمانيين. مع هذا، رغم بوادر الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي إلا انه لم يرق بعد الي الانقسامات والصراعات الداخلية، وكذلك لا تزال إسرائيل تحافظ على دعم غربي منقطع النظير من الولايات المتحدة وأوروبا، وما زالت قادرة على قمع المقاومة الفلسطينية باستخدامها العنف المفرط.
ومن هنا، يجب على الفلسطينيين أن يواصلوا الإعداد والتخطيط بصورة منظمة للحفاظ على قدراتهم العسكرية والشعبية وتطويرها الى أن تحين الفرصة المناسبة. فمخاوف الإرهاق والإنهاك من جراء العنف المفرط الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي وقمعه الممنهج للفلسطينيين يُوجب التركيز على ادخار كل جهد وتوظيفه في تعزيز القوة والثبات الداخلي. فالمسؤولية الكبرى هي في توقيت ضربة منسقة وفاعلة في لحظة ترنّح إسرائيل وانشغال داعميها الغربيين في مشاكلهم الداخلية والخارجية.
في الختام، يتضح أن النجاح لا يتحقق بالاعتماد على معجزات سماوية، ولكن الإعداد والعمل الجاد وانتظار اللحظة المناسبة، ومن قبلها وبعدها التوفيق من الله هي مفاتيح التحرر من الاحتلال. رأينا ذلك قديما في سيرة الفاتح صلاح الدين وانتظاره اللحظة الملائمة ورأينا ذلك في نصر ثورة أحرار سوريا وبأذن الله نراه قريبا بدحر دولة الصهاينة واستعادة فلسطين.